يتملك العالم العربي هذه الفترة توجس غير مألوف، يتمثل في احتمال التقارب بين إيران والولايات المتحدة في ظل الدبلوماسية النووية الجارية حالياً بين البلدين، ومع أن الأمر قد يثير الضحك بالنظر إلى تركة انعدام الثقة التي تفصل بين طهران وواشنطن، إلا أن هذا الخوف الذي يستشعره بعض قادة المنطقة ويفاقمه التقدم الحثيث للتوقيع على اتفاق نهائي مع إيران حول برنامجها النووي، ربما يجد تبريراً له في التاريخ، فالولايات المتحدة لم تتمكن قط من السير في طريق مراقبة الأسلحة والحد منها دون السقوط في فخ الوهم، حيث كانت تصر دائماً في تجاربها السابقة على تلميع صورة الشركاء المفاوضين لها واستدعاء المعتدلين بحثاً عن أرضية مشتركة، ولذا يكمن التحدي الأساسي بالنسبة لواشنطن اليوم في تجاوز تاريخها من خلال التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وفي الوقت نفسه رفض التطلعات الإقليمية الإيرانية والتصدي لها. وبالرجوع إلى حقبة السبعينيات في أوج فترة الانفراج بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق في الموضوع النووي، دائماً ما كانت تعقبها فترة من التوسع التجاري والاعتراف الدبلوماسي، حيث أغرت الإدارات الأميركية المتعاقبة فكرةُ الانتقال من الاتفاق النووي إلى تقارب جيوسياسي أكبر، باعتبار أن الخطوة الأولى ستمهد الطريق للثانية، فبما أن القضايا النووية الشائكة أمكن حلها من خلال الحوار الهادئ، تقول الإدارات الأميركية، فلماذا لا يمتد ذلك إلى بقية القضايا الخلافية أيضاً؟ بيد أن تلك الفكرة أثبتت خطلها، ذلك أن الكرملين لم يجد أي تناقض بين التفاوض على معاهدة الحد من الأسلحة، وبين اجتياح أفغانستان، إذ يبدو أن خصوم أميركا كانوا على الدوام عمليين أكثر بشأن اتفاقيات مراقبة الأسلحة دون أن يخلطوا بين ذلك والتخلي عن مزاعمهم الأيديولوجية، أو بينها والتجارة والمصالحة. ولذا يمكن في الظاهر لفكرة إدماج إيران الواهمة أن تمارس الإغراء نفسه على أميركا، لا سيما أن تصاعد خطر «القاعدة» في المنطقة، بما هو تنظيم سني متطرف، قد يدعو إلى التعاون مع الدولة الشيعية المتوجسة. كما أن الولايات المتحدة تسعى لمغادرة أفغانستان وقد تحتاج إلى مساعدة طهران للانسحاب، وربما ينتقل الطرفان، ما أن يتفقا على تسوية الملف النووي، إلى مساحات أخرى للتعاون. ولعل ما يزيد من تعضيد هذه الحجج، صعود البراجماتيين في إيران بقيادة الرئيس حسن روحاني، حيث يبدو أن أي جهود أميركية للانخراط مع طهران قد تقوي الطرف المعتدل في السياسة الخارجية الإيرانية، وربما تعزز أيضاً القوى التقدمية في الساحة الداخلية. والحال أنه على غرار زعماء الاتحاد السوفييتي السابق، يظل حراس الدولة الدينية في إيران أقل تأثراً بالدبلوماسية من نظرائهم الأميركيين، وهم أيضاً أقل خضوعاً للمشاعر في هذا المجال. فمهما كانت إجراءات بناء الثقة التي يتفاوض الدبلوماسيون الإيرانيون لإقرارها في جنيف، فقد أصر المرشد الأعلى، على خامنئي، أواخر شهر نوفمبر الماضي، على أن إيران بصدد «تحدي النفوذ الأميركي في المنطقة وتوسيع نفوذها». وبحسب رؤية خامنئي، تمثل أميركا نموذج القوة الاستعمارية الآفلة والعاجزة عن فرض قدر من الانضباط في شرق أوسط متمرد. ومع أن إيران لا ترى في نفسها القوة المسؤولة عن تحمل عبء إصلاح ما أفسدته الولايات المتحدة، إلا أنها تتوق إلى ملء الفراغات الناتجة عن الانسحاب الأميركي. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفاعلين الأساسيين في تحديد سياسة إيران تجاه المنطقة ليسوا الدبلوماسيين المهذبين الذين يختلطون مع نظرائهم الغربيين في جنيف، بل قوات الحرس الثوري، خاصة «فيلق القدس»، فبالنسبة لقائده فقد بدأ الصراع لإخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط في العراق، كما قال هو نفسه في سبتمبر الماضي، لينتقل الصراع لاحقاً إلى سوريا، إذ يعتبر بقاء نظام الأسد في السلطة مكوناً أساسياً ضمن السياسة الخارجية الإيرانية. ولأن أميركا لم تغادر سياستها في المنطقة المتمثلة في فرض قيود صارمة على برنامج إيران النووي عبر المفاوضات، وفي الوقت نفسه لجم تطلعات طهران الإقليمية من خلال ممارسة الضغط، فإنه لا بد لها من ترميم تحالفاتها المتضررة في الشرق الأوسط. فالولايات المتحدة لن تستطيع استعادة ثقة حلفائها دون الاضطلاع بدور فاعل في الملحمة السورية، وهذه الأخيرة التي رغم انقسام معارضتها ووجود المتطرفين الإسلاميين في مؤشر يثير المخاوف، إلا أن العديد من الأطراف ما زالت ملتزمة بإسقاط نظام الأسد واحتواء المعارضة الإسلامية، وهي لذلك تستحق دعم الغرب واحتضانه. أما إذا استمرت أميركا في إعفاء نفسها من احتواء الصراع في الشرق الأوسط والابتعاد عن المنطقة، فستبقى تعهداتها للجمهور العربي المتشكك خالية من أي مضمون. ويبدو في أحيان كثيرة أن التوتر بين الولايات المتحدة وإيران علق على أساس من الاختلافات التقنية حول الاتفاق النووي، ولعقود طويلة ناضل الدبلوماسيون فقط لتحديد التوازن الدقيق بين عدد أجهزة الطرد المركزي ومدى تخفيف العقوبات، وكل ذلك في وقت انتقلت فيه الرئاسة من الإصلاحيين إلى المتشددين ثم أخيراً البراجماتيين، ولكن الصراع في صلبه يبقى أيديولوجياً، فإيران لا تريد لأميركا النجاح، وعلى واشنطن بدورها أن تسعى لإفشال طهران، ولذا ستبقى هجمة إيران على العالم العربي هي المحدد الأساسي للسياسات في الشرق الأوسط، ولعل أول خطوة يتعين على أميركا القيام بها لبلورة سياسة صائبة تجاه إيران، هي التخلي عن أوهام الانفراج التي تصاحب عادة دبلوماسية مراقبة الأسلحة. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»